الغفران في الزواج
جوهان كريستوف
مقال بتصرف من كتاب "الغفران الفن المفقود" للكاتب: جوهان كريستوف أرنولد
إن لم يغفر الزوج والزوجة لبعضهما يومياً سيتحول الزواج إلى جحيم وهذا ما رأيته خلال السنوات التي قضيتها في المشورة للمتزوجين، ورأيت أنه يمكن حل أعقد المشكلات بكلمتين بسيطتين ألا وهما: أنا آسف.
قد يكون من الصعب على الشريك أن يطلب من شريكه الغفران، إذ يتطلب الموضوع اتضاعاً واعترافاً بالضعف والخطأ. ولكن هذا هو ما ينجح الزواج، إذ يعيش كلا الشريكين في اتضاع متبادل مدركين تماما اعتمادهم الداخلي على بعضهم البعض.
اعتاد ديترتيش هونيفير – وهو الراعي الألماني المعروف الذي سجنه هتلر في الثلاثينيات بسبب معارضته لنظام النازي – اعتاد أن يتحدث مع أعضاء المجموعة التي كونها عن الحاجة إلى "الحياة معاً في غفران" لأنه بدون الغفران لا يمكن أن تنجح أي شركة إنسانية وبصفة خاصة الزواج، وكتب مرة يقول : "لا تصر على حقوقك، ولا تلو من بعضكم البعض، ولا تحكموا أو تدينوا بعضكم البعض، ولا تتصيدوا الأخطاء لبعضكم البعض، ولكن اقبلوا بعضكم بعضاً كما أنتم، وسامحوا بعضكم بعضاً كل يوم من أعماق قلوبكم"
لم نفتقر أنا وفيرينا طوال فترة زواجنا التي استمرت واحد وثلاثين عاما إلى فرصة للغفران. فبعد ما مضى أسبوع على زفافنا تقابلنا مع أول أزمة في حياتنا. صنعت لي أختي، وهي فنانة، مجموعة جميلة من الأطباق، ودعينا والدي وأخواتي على العشاء في شقتنا الجديدة وقضيت وفيرينا طول فترة بعد الظهر في إعداد الطعام، وأعددت مائدة الطعام مستخدماً الأطباق التي صنعتها أختي. ووصلت عائلتي وجلسنا لنأكل معاً وفجأة انهار طرفي المنضدة، فلم أقم بضبط المنضدة جيداً، وغطى الطعام والصحون المكسورة الأرضية، وخرجت زوجتي من الحجرة والدموع تملأ عيناها. ومضت ساعات طويلة قبل أن تتمكن زوجتي من أن تغفر لي فعلتي هذه وتضحك على تلك الحادث التي صارت مع الوقت نكتة عائلية معروفة.
مع الوقت أصبح لدينا ثمانية أطفال وكان هناك أسباب كثيرة للخلاقات، وفي كل مساء تقوم فيرينا بإعطاء حمام للأطفال وإلباسهم بيجامات نظيفة ثم ينتظروني على الكنبة مع كتبهم المفضلة، وعندما أرجع إلى المنزل من عملي، يرغب الأولاد في اللعب معي وفي بعض الأحيان ينتهي بنا الأمر بقصف بعضنا البعض بالحشائش في الحديقة، ومازالت فيرينا تتذكر الساعات التي قضتها لتزيل بقع الحشيش والطين وبلا أي تزمر!
عانى معظم أطفالنا من الربو وعندما كانوا صغاراً وكثيراً ما أيقظونا طوال الليل تقريباً بسبب كحتهم وأزيز تنفسهم، وهذا كان سبب في كثير من المشكلات بيننا خاصة عندما تذكرني أنه بإمكاني ترك السرير والذهاب إليهم تماما مثلها.
كنا نختلف كثيراً حول عملي، إذ كنت أقضي ساعات طويلة في الطرق بسبب عملي كمندوب مبيعات لدار نشر نملكها، ولأن دار النشر كانت تغطي منطقة كبيرة في غرب نيويورك في بافلوا وروشستر وسيركوس كنت أقضي ما بين ستة إلى ثمانية ساعات في قيادة السيارة. وفيما بعد أصبحت قائداً كان عليَّ الذهاب كثيراً إلى كندا وأفريقيا وأوربا، وكثيراً ما كنت أدافع عن سفري إلى تلك المناطق قائلاً أن تلك السفرية "هامة للغاية". هذا التأكيد لم يهدئ من روع زوجتي التي كان عليها إعداد حقائب السفر والتكيف مع جدول أعمالي والبقاء بمفردها مع الأطفال.
ثم يأتي وقت النيويورك تايمز، فبعد قضاء يوم صعب في المواصلات لا يمكنني متابعة الصحف إلا لدقائق معدودة حين يلعب الأطفال حولي، وقد رأيت أنانيتي فيما بعد.
وكثيرا ما أتساءل كيف كان لزواجنا أن ينجح إن لم نتعلم أن نغفر لبعضنا البعض كل يوم من البداية؟
ينام كثير من الأزواج معاً في نفس الفراش ويشتركون في نفس البيت ولكنهم على بعد أميال داخلياً من بعضهم البعض لأنهم بنوا جدار من الكراهية، قد تكون الحجارة التي بـُني بها هذا الجدار صغيرة للغاية كنسيان عيد الزواج أو سوء فهم أو اجتماع عمل يحدث بصفة طارئة بعد الترتيب لنزهة عائلية معاً تنتظرها الأسرة منذ وقت طويل ولكن الانقسام الناتج الذي تخلفه تلك الأحداث ينتج عنه كارثة.
يمكن إنقاذ كثير من الزيجات بالإدراك البسيط بأن الناس غير كاملين، فكثيراً ما يفترض الزوجان أن العلاقة الجيدة خالية من الجدال والاختلاقات،ويصابون بالتشويش عندما لا يستطيعون الائتلاف مع التوقعات غير الواقعة.
تتضح القدرة على الفغران من قصة والدي زوجتي، هامز ومارجريت ماير، فقد كان هانز رجلا قوي الإرادة وتسبب عادة في انفصالها أكثر من مرة بعيداً عن بعضهما البعض، فقد سُجن بعد مضي شهور قليلة على زواجهما في عام 1929 لأنه رفض الالتحاق بالجيش السويسري وذلك لأنه من المتحمسين لمبدأ ضد العسكرية.
وبعد إطلاق سراحه بفترة قصيرة انفصل الزوجان مرة أخرى، فقد اكتشفت مرجريت مجموعة البرودهوف وأرادت الانضمام إليها، ولم يرغب هانز الذي هو عالم اجتماع ديني وله أفكار مختلفة في الحياة المشتركة في الانضمام ، كانت مارجريت قد ولدت طفلها الأول منذ فترة قصيرة وتوسلت إليه الانضمام لهما ولكن هانز لم يقتنع. وبعد مضي عدة شهور اقنعته بالمجيء.
وبعد مضي ثلاثون عاماً وإنجاب أحد عشر طفل انفصلا مرة أخرى، في هذه المرة كانا يعيشان في أمريكا الجنوبية وكان ذلك في عام 1961 ، وهو وقت للاضطرابات الداخلية العنيفة والصراعات في برودهوف . وأصبح هانز غريباً عن زوجته وعن المجموعة لأنه لم يستطع رؤية أخطاؤه ولا مسامحة الآخرين على أخطاءهم في حقه، وانتقلت مارجريت والأطفال إلى الولايات المتحدة، أما هانز فاستقر في بوينس أيرس وبقى فيها طوال الأحد عشر عاما التالية.
ولم تكن هناك علامات خارجية على أنه يحمل ضغينة ولكن لم تكن هناك أية علامات أيضا على الشفاء من كلا الجانبين ، وببطء ارتفع حائط المرارة الذي هدد بإبقائهما بعيداً عن بعضهما للأبد، وعندما تزوجت فيرينا في عام 1966 لم يحضر هانز حفل الزفاف، وبدأ أطفالنا في النمو دون أن يعرفوا جدهم لأمهم.
في عام 1972 توجهت إلى بوينس أيرس مع أندريس أخو فيرينا في محاولة لمصالحة هانز ولكنه لم يبد اهتماماً بذلك على الأقل في البداية، وأراد أن يحكي ما يخصه في القصة وأن يعلمنا مرة أخرى بكم المرات التي تعرض فيها للأذى . وفي اليوم الأخير من رحلتنا حدث تغير، إذ أعلن أنه سيزورنا في الولايات المتحدة، وأصر أن زيارته ستستمر لمدة أسبوعين فقط وأكد على حقيقة أنه سيترك تذكرة عودة، ولكن هذه كانت البداية.
وعندما أتى لزيارتنا خاب ظننا، لأن هانز لم يستطع أن يغفر، فعلنا كل جهدنا لكي نزيل صعوبات الماضي ونعترف بذنبنا في الأحداث التي أدت إلى تلك الغربة الطويلة ولكننا لم نصل لشيء، فمن الناحية الفكرية عرف هانز أن الشيء الوحيد الذي يفصل بيننا وبينه هو قدرته على الغفران، ولكنه لم يستطع أن يرغم نفسه على ذلك.
ثم أتت نقطة التحول، ففي وسط اجتماع المجموعة استجمع هانز هيرمان الذي كان على مشارف الموت بسبب إصابته بسرطان في الرئة كل قوته وقام واتجه نحو هانز وربت على صدره قائلاً: "يجب أن يحدث هنا!"
وقد كلفت هذه الكلمات هانز هيرمان جهداً كبيراً لأنه كان يحصل على أكسجين إضافي من خلال فتحتي الأنف ويتكلم بصعوبة، وتغير هانز بالكامل، فذابت برودته، وقرر أن يغفر ويرجع، وعندما رجع إلى الأرجنتين لينهى بعض شئونه انتقل ليلحق بمارجريت في المجموعة وأثبت أنه ما زال العضو النشط والمكرس مثلما كان منذ عدة عقود مضت.
لم يلمس هانز طوال السنوات التي قضاها بعيداً امرأة أخرى، وأثناء تلك العقود الطويلة صلت مارجريت يومياً من أجل عودة زوجها، وكما هو الحال في كل القصص. لقد تألم كلاهما واستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى يستعيدا ثقتهما ببعضهما البعض، ويمكنني أن أشهد أنهما نجحا بصفتي زوج ابنتهما، فهما يعيشان في محبة وفرح مع بعضهما البعض ومع أولادهم وأولاد أولادهم حتى ماتت مارجريت منذ ست عشرة عاماَ.
لكن إن غفرنا لشخص آذانا فعلاُ أليس من الطبيعي أن نظل متضايقين مما فعلوه؟ هذا هو السؤال الصعب ولكن ربما له علاقة بالصعوبة التي نواجهها فيما يتعلق بفهمنا للعدالة أكثر من الغفران. فالغفران أكثر من مجرد عدالة كما اكتشف هانز ومارجريت ، فهو عطية وقد يبدو أمر غير منطقي وغبي بالنسبة لهؤلاء الذين لا يمكنهم قبوله.
الخيانة الزوجية :
تظهر قصة والدي زوجتي أنه يمكن شفاء الانفصال الذي استمر لفترة طويلة، ولكن هل يمكن أن يُدمر الزواج بسبب ارتكاب الزنا؟
من السهل أن نقول لا ولكن وفقاً لخبرتي يمكن أن يتغير معظم الناس بعدما يسمح لهم بالحصول على الوقت الكافي والتشجيع، فالمحبة تتصالح وتغفر. فحتى أن حتمت الظروف انفصال مؤقت إلا أن المحبة الحقيقة هي الطريق الوحيد للشفاء ولم الشمل من جديد، ولكن هؤلاء الذين يطلقون ويتزوجون مرة أخرى يغلقون الباب أمام أي فرصة للمصالحة في المستقبل.
قد يستغرق الصدع في الثقة بسبب الخيانة الزوجية سنوات للشفاء، في البداية قد يكون من المهم بالنسبة للزوجين أن يعيشا منفصلين ويحصلا على مشورة من متخصصين، أو أي شكل آخر من أشكال المساعدة بتوجيه من شخص يثق فيه كلاهما، ويجب أن يرغبا في العمل على إعادة بناء ثقتهما حتى يستعيدا زواجهما.
تزامنت بداية كتابتي لهذا الكتاب مع تقديم للمشورة لزوجين انهار زواجهما بسبب الزنا، فقد تزوج أيد وكارول منذ تسع سنوات، وقد عانى أيد من مشكلات في إدمان الكحوليات حتى قبل زواجه مما تسبب في كثير من الصراعات في زواجهما منذ البداية. وعلى الرغم من أنهما بقيا معاً في نفس المنزل إلا أنهما انفصلا بعيداً عن بعضهما البعض أكثر وأكثر، وبدأ أيد علاقة سرية مع جارته بعد مضي بضع سنوات من زواجهما، ووجدت كارول نفسها تشعر بالإحباط أكثر فأكثر على الرغم من أنها لا تعرف لذلك الشعور سبباً.
فأتى أيد وكارول لبرودهوف في التسعينات، وبعد أيام معدودة من مجيئهما أخبر أيد زوجته بعلاقته مع جارتهما، فلم يتح له ضميره المذنب الشعور بالسلام، ووجد نفسه لا يستطيع إخفاء هذا السر أكثر من ذلك. وشعرت كارول بكآبة شديدة، فقد كان في داخلها شعور بأن هناك شيئ ما خطأ منذ زمن طويل ولكنها لم تتخيل أن تكون مخدوعة طوال هذا الوقت. وأخبرت أيد في انفعالها أن زواجهما انتهى وأنها لن تغفر له أبداً.
لم يكن من الصعب التعاطف مع مشاعرها ولكني علمت من البداية أنه إن لم تتمكن من الغفران لأيد فلن تشفى الجراح العميقة التي تسبب أيد فيها. وقلت لها إنها إن قبلت الهزيمة فلن تجني شيئاً بل سيبتعدان أكثر عن بعضهما البعض ولن تكون هناك إمكانية لعودتهما مرة أخرى.
وفي نفس الوقت نصحتها بالانفصال الفوري مع تقديم المشورة لكلا الطرفين، فسيساعد هذا الانفصال أيد وكارول على إعادة صياغة مشاعرهما بطريقتهما الخاصة، فلن يكون هناك "إصلاح سريع"، إذ أن هذه العملية مؤلمة وتتطلب وقت طويل، ويجب بناء علاقة جديدة من البداية.
الغفـران :
وانفصل أيد وكارول لعدة شهور ولكن أثناء فترة الانفصال كان يحرزان تقدماً في علاقتهما. في البداية كان الاتصال بينهما يتم باستخدام المكالمات التليفونية فقط، ثم نمت محادثتهما معاً وأصبحت أكثر هدواً وبدأ يتزاوران، وتوقف أيد عن تناول الخمور وبالتدريج بدأ الفرح والحرية التي تبعت اعترافه بذنبه وحلا محل الحزن الذى تأصل في الداخل. وصارعت كارول لحظات صعبة ولكنها كانت شغوفة أن تبدأ من جديد لا من أجل أولادها الذين بقوا معها عندما رحل أيد من المنزل فقط ولكن من أجل نفسها أيضاً.
وبدأت تشعر بحب جديد لأيد والأهم من ذلك أنها رغبت في الغفران له بالكامل، وبمجرد أن أدركت أنها أخطأت أيضاً في هذا الأمر استطاعت أن تتقابل مع أيد على هذا المستوى.
والآن بعد مضي عشر شهور اجتمع أيد وكارول مرة أخرى، ظهر للجميع غفرانهما المتبادل في احتفال عقد خصيصاً من أجل رجوعهما لبعضهما مرة أخرى، وقاما بتبادل خاتما زواج جديدان تأكيداً على هذا الأمر.&