حدثت هذه المعجزة في أحد مجامع اليهود في بيريّة في يوم سبت. ولليهود هيكل واحد، هو مركز تقديم الذبيحة في أورشليم، ولم يكن مسموحاً لهم ببناء هيكلٍ غيره. لكن كانت لهم مجامع كثيرة ومراكز للتعليم في كل مكان. وفي أحد مجامع بيرية شفى المسيح المرأة التي كانت منحنية مدة ثمانية عشر عاماً، وكان الرب قد شفى من قبل في مجمع كفرناحوم هذا رجلاً به روح نجس (مرقس 1: 23).
أولاً - المحتاجة والمعجزة
1 - مرضها
وصف البشير لوقا المريضة بأنها: «ٱمْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضُعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ ٱلْبَتَّةَ» (آية 11) لأن عضلات ظهرها متيبّسة وسلسلتها الفقرية مقوَّسة، فلم تنتصب لمدة ثماني عشرة سنة. لقد ربطها الشيطان كل هذه المدة، وكان ينبغي أن تُحلّ من هذا الرباط.
وحدث مع تلك المرأة ما لا يحبه الله للإنسان، فكلمة «إنسان» في اللغة اليونانية «أنثروبوس» تعني الإنسان المنتصب، الذي يرفع عينيه إلى أعلى. وهذا هو هدف الله من خلق الإنسان، وهذا ما يجب أن يهدف له كل إنسان. ومن يتمتع بإنسانيته بالفعل، هو من ينظر إلى أعلى حيث المسيح جالس (كولوسي 3: 1).
وطعن الشيطان هذه المرأة المسكينة بالمرض الذي ضيَّع إنسانيتها، فصارت كالحيوان تنظر إلى أسفل. لكن بالرغم من ذلك كانت روحها تتطلع إلى أعلى، إلى ما خلقها الله عليه، وما أراده لها. وقد قال سليمان الحكيم: «هٰذَا وَجَدْتُ فَقَطْ: أَنَّ ٱللّٰهَ صَنَعَ ٱلإِنْسَانَ مُسْتَقِيماً»
(جامعة 7: 29).
2 - إيمانها:
التقى المسيح بالمنحنية وهي تتردّد على المجمع لتتعبد. لقد كانت أمينة مع الله، ففي كل فترة مرضها بقيت تذهب إلى بيت الله بانتظام تستمع لكلمته بالرغم من انحنائها.
لم يؤثر عجزها الجسدي على روحها. وفي زيارة عادية لها للمجمع نالت البركة، وغيَّر المسيح حياتها تماماً عندما لمسها «فَفِي ٱلْحَالِ ٱسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ ٱللّٰهَ» (آية 13)، وهكذا حققت هدف حياتها ونظرت إلى أعلى. لم تعتبر هذه السيدة ذهابها للمجمع روتيناً ميتاً لا فائدة فيه. وكما وصفها المسيح «هِيَ ٱبْنَةُ إِبْرٰهِيمَ» (آية 16) لأنه كان لها إيمان إبراهيم، وذلك في استمرارية وانتظام تعبُّدها ولجوئها إلى الله. وكثيرون منّا يتأخرون عن المجيء لبيت الله بسبب مرض أو هموم أو انشغالات عائلية أو ضغط عمل، وتضيع منا بذلك فرص كثيرة رائعة كان يمكن أن نلتقي فيها بالرب فنأخذ بركة أكثر مما نطلب أو نفتكر.
3 - شفاؤها وشكرها:
لم تطلب هذه المرأة المريضة شفاءً. لكن كان وجودها في المجمع إعلاناً لرغبتها في الشفاء، وطلباً خافتاً له. والمسيح يسمع الأنين مهما كان خافتاً في أعماق القلب، ويرى الدموع حتى إن لم نصرخ ونجاهر بالطلب، فهو يعلم ما نحتاج إليه من قبل أن نسأله. «أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ إِلَى ٱلأَرْضِ نَظَرَ لِيَسْمَعَ أَنِينَ ٱلأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي ٱلْمَوْتِ»(مزمور 102: 19 ، 20).
وبعد أن استقامت المرأة اشتركت مع الواحد السامري وسط العشرة البرص الذين نالوا الصحة (لوقا 17: 15) فمجَّدت الله، واشتركت مع أعمى أريحا المذكور في لوقا 18: 43. ونتيجة شكرها فرَّحت المؤمنين الموجودين: «وَفَرِحَ كُلُّ ٱلْجَمْعِ بِجَمِيعِ ٱلأَعْمَالِ ٱلْمَجِيدَةِ ٱلْكَائِنَةِ مِنْهُ» (آية 17).
ثانياً - رئيس المجمع والمعجزة
دعاه المسيح في آية 15: «يا مرائي» وهي لفظة قاسية، ولكنها تصف الرجل وصفاً صادقاً، لأنه عندما رأى شفاء المنحنية التي تعّوَدت حضور المجمع كل يوم سبت اغتاظ جداً، لأن المسيح أبرأها في يوم سبت. ولو كانت المريضة أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته لجاء تعليقه مختلفاً، ولو كان أمرها يهمّه لفسَّر الشريعة بطريقة أخرى لصالحها! ومن أخطاء رئيس المجمع نذكر:
1.كلَّم الشعب الموجود وهو يقصد المسيح، دون أن يوجّه الكلام للمسيح مباشرة، فقال: «هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا ٱلْعَمَلُ، فَفِي هٰذِهِ اِيْتُوا وَٱسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ» (آية 14). فلو كان شجاعاً لوجَّه الاتهام للمسيح مباشرة، فالمسيح هو الذي كسر السبت وشفى المريضة. لكن رئيس المجمع أطلق غضبه على الجمهور البريء الذي جاء للتعبّد.
2.جلس هذا الرجل على كرسي موسى لكنه حكم بغير شريعة موسى، كما لم يعلِّم تعاليم موسى. «فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ مُوسَى: «لا تَكُمَّ ثَوْراً دَارِساً». أَلَعَلَّ ٱللّٰهَ تُهِمُّهُ ٱلثِّيرَانُ؟ أَمْ يَقُولُ مُطْلَقاً مِنْ أَجْلِنَا؟ إِنَّهُ مِنْ أَجْلِنَا مَكْتُوبٌ» (1كورنثوس 9: 9 ، 10). كان في شريعة موسى رحمة بالحيوان يوم السبت، وأنكر رئيس المجمع هذه الرحمة على الإنسان يوم السبت!
3.ادّعى الغيرة على السبت بسبب حسده للمسيح وغيظه من شهرته ومن محبة الناس له وإقبالهم عليه، فخالف قواعد الرحمة التي يتوقّعها الإنسان العادي، والتي اصطلح الناس على اتِّباعها في مثل تلك الأحوال!
4.أراد أن يكون فعل الخير بطريقته هو، فقد كان هذا الرجل تابعاً لا قائداً، وكان يعيش تحت عبودية شريعةٍ جامدة، وليس عضواً في ملكوتٍ حي. كان ولاؤه للتفسير المتزمّت للشريعة أكبر من ولائه للرحمة والمحبة. كانت لديه فكرة عن طريقة عمل الخير، ولما فعل المسيح الخير بطريقة أخرى وأوضح المفهوم الصحيح لعمل الخير، امتلأت نفس رئيس المجمع بالغيظ لأنه كان يريد الخير بطريقته هو، وذلك بدلاً من أن تمتلئ نفسه بالشكر والانبهار من عمل المسيح الجليل ومن رؤية قوة الله التي جاءت متمثِّلة في المسيح «عمانوئيل» الذي معنى اسمه «الله معنا».
5.أثار آخرين ليقفوا معه ضد المسيح. ومن المؤلم أن كثيرين من الموجودين وافقوه على قوله ووقفوا معه ضد المسيح. ولكن الحاضرين أدركوا الظلم الواقع على المسيح وعلى المرأة المنحنية التّقية. فلما أسكت المسيح رئيس المجمع برَدِّه المقنع: «أُخْجِلَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ» (آية 17).
ثالثاً - المسيح والمعجزة
شخَّص المسيح مرض المرأة، ثم شفاها:
a.رآها (آية 12). كانت المسكينة منحنية، ربما لم تستطع أن تراه لانحنائها، ولكنه هو رآها. وفي مرات كثيرة تمتلئ عيوننا بالدموع فلا نراه. لكننا نشكره لأنه هو يرانا، كما أن المهم والأساسي هو حبه لنا. وعندما ندرك حبه لنا نقول مع يوحنا: «نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَّوَلاً» (1يوحنا 4: 19). وعندما يرانا نقول له: «بِنُورِكَ نَرَى نُوراً» (مزمور 36: 9).
b.دعاها: «فلما رآها دعاها، وقال لها: يا امرأة إنك محلولة من ضعفك» (آية 12). لم يتوقف عند رؤيتها، لكنه دعاها وشخَّص ضعفها. أدرك موقفها وعرف مدى الصعوبة التي تجتازها. أحسّ قلبه بها وتعاطف معها، لذا تحنَّن وحلَّها من ضعفها. إنه واقف يقرع ليعطي، فهل تقبل وتفتح؟!
c.لمسها وشفاها: وضع المسيح كلتا يديه عليها لا يداً واحدة. وهذا يرينا إقباله وحنانه عليها، وفي الحال جاءت النتيجة الفورية، واستقامت المرأة ومجدت الله لأنه أقامها.
d.دافع عن شفائها: عندما نالت الشفاء هاجمها رئيس المجمع مع المشابهين له في التفكير، ولكن المسيح لم يتركها وحدها، بل دافع عنها، وقال لرئيس المجمع: «أَلا يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ ٱلْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ وَهٰذِهِ، وَهِيَ ٱبْنَةُ إِبْرٰهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا ٱلشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هٰذَا ٱلرِّبَاطِ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟» (آيتا 15 ، 16). وبهذا أضاف المسيح دفاعه عنها إلى بركة الصحة لها.
القس / منيس عبد النور