هل يؤمن المسيحيون حقاً بثلاثة آلهة؟
هذا هو الإعتقاد الشائع بين بعض الطوائف غير المسيحية بما بختصّ بعقيدة الثالوث الأقدس. ونحن نريد في هذه العجالة أن نعرض لهذا الموضوع، بكل موضوعيّة، لنؤكد أولاً أن المسيحيين يؤمنون بإله واحدٍ وانهم ليسوا مشركين أو كفاراً كما يغلو في اتهامهم بعض الذين لم يدركوا جوهر هذه العقيدة أو مضمونها، وثانياً أن المسيحية تحارب بكل ضراوة الإيمان بتعدد الآلهة، وهو موقف اتخذته الكنيسة المسيحية على اختلاف طوائفها منذ نشأتها والى هذا اليوم. وأية طائفة تؤمن بوجود ثلاثة آلهة هي طائفة هرطوقية.
عندما أقدم أحد اليهود على سؤال المسيح عن أعظم الوصايا أجابه: "إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا اسرائيل، الرب إلهنا رب واحد..." وهي ترديد لما ورد في سفر التثنية 6: 4-9 .
والباحث في جميع اسفار الكتاب المقدس لا يقع على دعوة تعدد الآلهة لأن ذلك مخالف لشريعة الله القدوس. وقد شدد رسل المسيح على وحدانية الله. ثم لم تلبث الكنيسة، تفادياً لكل سؤ فهمٍ، أن صاغت هذه العقيدة في قانون الايمان المسيحي.
اذن كيف نُفسّر القول أننا نؤمن بإله واحد في ثلاثة أقانيم وما هو الأقنوم؟ وكيف يمكن أن نقول: "الله الآب والله الابن والله الروح القدّوس إله واحد؟".
لا بُدّ لنا قبل ان نبحث في سرّ هذا الثالوث الأقدس أن نُلمِّح الى بعض مظاهره كما تجلت في العهد الجديد على الأقل.
قبل أن يصعد السيد المسيح الى السماء خاطب تلاميذه وحثّهم أن يذهبوا ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها وان يُعمّدوا المؤمنين "باسم الآب والابن والروح القدس". إن ما يلفت الانتباه في هذه الوصية هو استخدام لفظة "اسم..." بدل "أسماء" مع أنه يتحدث عن أقانيم ثلاثة. يقول النص: "وعمّدوهم باسم..." هذا الاستخدام غير المألوف كان يهدف الى التأكيد على الوحدانية ولس على التعدّد، لأن الله واحد.
والظاهرة الثانية، ما جاء في الإنجيل كما دوّنه في يوحنا 1:1 "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله". في هذه الآية حاول الوحي الإلهي من خلال ألفاظ اللغة البشرية العاجزة ان يكشف لنا عن العلاقة العضوية القائمة بين الكلمة أي شخص المسيح، وبين الآب. تأمل معي في نصّ هذه الآية. إن لفظة "كلمة"، هي في صيغة المؤنث، ولكنها جاءت مسبوقة بفعل "كان" المذكر: في البدء كان الكلمة وليس "كانت" كما يجب أن تكون تطبيقاً لقواعد اللغة. ويتدرج بنا الوحي من كون "الكلمة" هو أزلي، الى أنه كان عند الله، الى كونه الله لأنه كان ككلمة في ذات الله. وكما أشار أحد اللاهوتيين الى ذلك بقوله:
* ان الله الواحد موجود بذاته فأعلن مسمّياً نفسه "الآب".
* وناطق بكلمته فأعلن مسمّياً نفسه "الابن الكلمة".
* حيٌّ بروحه فأعلن مسمّياً نفسه "الروح القدس".
فالله من غير كلمة هو إله أخرس، ومن غير روح هو إله ميّت وحاشا لله أن يكون أخرس، أو ميتاً. وقد أشارت الأسفار السماوية في الكتاب المقدس الى هذه الحقيقة إذ تكلم الله قديماً وحديثاً مع أنبيائه ورسله، كما أرسل روحه ليُوحي، ويُبكت ويُؤنّب وليُرشد. وكما أن الآب أزلي كذلك كلمته وروحه.
والظاهرة الثالثة التي ننوه بها هي أن العلاقة بين الآب والابن هي ليست علاقة جسدية، بل هي علاقة روحية لأن "الكلمة" هي انبثاق أو ولادة تعبيرية. فعلى سبيل المثال نقول في لغتنا العربية عن قصيدة ما: هذه القصيدة هي من بنات أفكار الشاعر فلان ... أي تعبير عن ذاته وما خالجه من أفكار وأحاسيس وأحلام ورؤى. فالمسيح بصفته "الكلمة" انبثق أو كان معبراً عن فكر الله وأعماقه. ولقد أكّد المسيح على هذه الحقيقة عندما قال في الإنجيل كما دوّنه متى (11:27): "ليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب. ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن".
وهذه المغرفة هي ليست معرفة سطيحة بل معرفة حميمة لا تعترضها الحواجز، لأن الابن وحده هو الذي رأى الآب. أشار المسيح الى هذا الأمر في حديثه عن علاقته بالآب (يوحنا 1: 18): "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر". ولفظة "حضن" هنا هي لفظة مجازية للتعبير عن الصلة الحميمة بين الآب والابن.
اذن، عندما نتحدّث عن إله واحد في ثلاثة أقانيم انما نشير الى وحدة لا تجزؤ فيها. ولعلّ ما أشار اليه القمص ابراهيم لوقا في كتابه "المسيحية في الاسلام" يُقدم لنا تفسيراً منطقياً واضحاً لهذه الوحدة أو الوحدانية. يقول: "... فولادة الابن العجيبة من الآب وانبثاق "النور" من "لهب" النار. فحيثما وُجد اللهب كان النور وكانت الحرراة. ولعلّ بعضهم يظنون أن اللهب هو علّة النور والحرارة، وظنهم هذا كان يمسي حقيقة لو كان "اللهب" بمفرده نارا، وكانت "الحرارة" بمفردها ناراً، وكان "النور" بمفرده ناراً. أما وإن كان اللهب والحرارة والنور ناراً واحدة فلن يصح الظن، ولن يستقيم القول لأنهما نار بجوهر واحد وخواص ثلاث ولن يمكن اطلاق كلمة "نار" على أحد هذه الخواص إلاّ بشرط وجود الخاصتين الأخريين. فإذا قلنا أن أحد الأقانيم الإلهية هو الله فإننا نقصد أن الأقنومين الأخريين ملازمان له، وأن كلاً منهم مساوٍ للآخر في جوهره، له كل ما له في كل شيء خلا الخاصيّة المتميّز بها. فالآب أب أبداً، والابن ابن منذ الآزل، والروح القدس منبثق انبثاقاً سرمدياً. فالقول بثلاثة أقانيم لا يعني القول بثلاثة آلهة لأن تعدّد الخواص والصفات لا يستلزم تعدّد الذات وإلاّ قلنا في المثل السابق بثلاث نيران، وهذا محال". هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قد يتساءل البعض كيف يمكن أن يكون ثلاثة في واحد؟ فواحدٌ + واحد + واحد لا يمكن أن يساوي واحداً. هذا صحيح، ولكن ما نقوله نحن على سبيل المثال أن 1x1x1 = 1 . فالحاصل كما ترى هو واحد على أنه يشمل في ذاته ثلاث وحدات متساوية متمايزة في خواصها، متحدة في جوهرها، ومشكّلة وحدانية من غير أن تفقد أية وحدة شيئاً من خصائصها المعبّرة عن شخصيتها وعملها ووظيفتها.
وأخيراً، لا بدّ أن ألمّح هنا الى الآية القرآنية الواردة في سورة العنكبوت 46:
"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن... وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا واليكم، والهنا والهكم واحد".
وهنا نتساءَل: كيف يقول القرآن بل يحض المسلمين أن يرددوا أمام المسيحيين: "الهنا والهكم واحد" والمسيحيون يؤمنون بالتثليث؟ كيف يقرّ القرآن معترفاً بإله النصارى والنصارى يعتنقون مبدأ التثليث الذي هو في لب العقيدة المسيحية؟ فإن كان "الهنا والهكم واحد" فإن الاسلام، في التحليل النهائي، يؤمن بما يؤمن به المسيحيون من تثليث أصيل كما عبّر عنه الكتاب المقدس، وليس التثليث الهرطوقي الذي كان شائعاً في عصر محمد. كقول أصحاب البدعة المريمانية التي كانت تدّعي أن العذراء مريم هي الأقنوم الثالث إضافة إلى أُقنومَي الآب والابن، أو عقيدة الأبونيين التي أطلقت على الروح القدس لقب "أُمّنا الروح القدس"، فجاءت الآيات القرآنية رداً على مثل هذه الهرطقات، واستنكرت أن يكون للرحمن ولد. ومن ذلك ما ورد في البيان القرآني: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهَين من دون الله" أو ما نصّه: "يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلَهين من دون الله؟". والمعروف أن البدعة المريمانية قد تلاشت من الوجود منذ ألف عام أو يزيد. أما التثليث المسيحي الحقيقي الذي لا يؤمن إلا بإله واحد في ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر، فهو باق بقاء كنيسة المسيح على الأرض، وهي الكنيسة التي لن تقوى على أبواب الجحيم عليها.