الإيمان والخطية
في هذا الدرس نتطرق إلى موضوع الإيمان والذنب أو الخطيـــــــة، وذلك لأهــمية الموضوعــــان القــصوى. لأن أغلبيــة الــنـــاس يحصرون إهتمامهم بالظروف التي تُحيط بالإنسان وَهم يُعالجون مشاكله المتكاثرة. فتارة يلومون وضعه الإقتصادي وتارة أخرى يلومون بيئته أو نوعية النظام الذي يعيش ضمنه. ومن النادر أن نلتفت إلى المشكلة الإنسانية في قلب الإنسان نفسه ونعالجها.
لا بد للإنسان في نهاية المطاف أن يتحمل مسؤوليته ويَقرّ بأن الخلل الذي طرأ على الحياة البشرية لا يمكن إرجاعه إلى مجرد عوامل خارجية. ومهما حاول الإنسان أن يتهرب من مسؤولياته فإنه يبقى مُرغماً على مجابهة الواقع ولو كان أليماً.
بعض الناس يكرهون رذائلهم ومع ذلك ينجدبون إليها، فما هو السبب في ذلك؟
يدوّن الكتاب المقدس بداية جميع الأشياء ، ويـبلٌغ الذروة بقصة خلق الإنسان، يتكلم الإصحاح الأول من سفر التكوين عن الإنسان بالنسبة الى جميع مخلوقات الله الأخرى. ثم يعطي الإصحاح الثاني صورة دقيقة عن الإنسان وطبيعته الخاصة الفريدة. صنع جسد الإنسان من تراب الأرض وهذه صلة قرابة بين الإنسان والخليقة المادية الأخرى. لقد ظهر الإنسان في عالم الوجود بحياته الروحية والذاتية بعد النسمة التي نفخها الله في أنفه مباشرة كما هو ظاهر من العبارة "ونفخ الله في أنفه نسمة حياة". ويعلن الكتاب المقدس عن أصل الإنسان الواصل في عمقه الى الله في العبارة:"وخلق الله الإنسان على صورته" (تكوين 1: 26و 27 و 9: 6) بحيث يتضمن قوى الفكر والإرادة والشعور. وكل مايحمل الفرد بين حياة الفرد الإنساني وبين حياة الحيوان الصرفة. والإنسان أيضا مقيد بتوجيه الضمير، به يستطيع أن يميز بين ما هو حق وما هو باطل أدبيا (رسالة رومية 2: 15). لذلك فالإنسان لم يُخلق محتاجا إلى تطوير بل خُلِق حائزا على قوى عقلية وأدبية.
إن الصورة التي يرسمها لنا سفر التكوين عن الإنسان هي صورة رائعة لأنها مند بداية الخليقة إستهدفت أن تكون مُعبِّرَة عن غرض سام هو علاقة تمجيد، وتَعُّبد، وتَقْديس، وفقا لشرع إلهي. ولكن الإنسان بغبائه، وسوء تقديره وأنانيته عصى أمر الله فسقط. وظاهرة السقوط هذه لم تقتصر على آدم فقط، بل تعدّته الى كامل الجنس البشري الممثل في أبوينا الأولين. قد يلوح لذى البعض أن في هذا الكلام شططا وجورا على البشر، وقد يتساءل آخرون قائلين: ما ذنبنا نحن إن أخطأ أبوانا الأولان، وكيف يمكننا أن نُثبت أن عصيان آدم وحواء قد غير من الطبيعة البشرية؟
السؤال بحد ذاته وجيه وخطير. والإجابة عنه أكثر صعوبة وتعقيدا. ولكن المتأمل في واقع الوضع الإنساني، لا بد أن يتوقف عند جملة من الظواهر التي لا تجد لها تفسيرا بمعزل عن قصة السقوط.
كان وضع الإنسان في جنة عدن وضع عظمة وسيادة، فالخليقة بكاملها خاضعة لإرادته وسطوته؟ تنبت الأرض له لبنا وعسلا، وتزحف حيونات الجنة عند قدميه. وفجأة يحدث بعد السقوط تغيير رهيب في تكوين الخليقة، فالأرض تنبت شوكا وحسكا بدلا من اللبن و العسل، و الأشجار لا تعطي ثمارها إلا بعرق الجبين، و الحيوانات التي إعتادت أن تستسلم بنظرة آمرة من عيني آدم قد إستحالت الى مخلوقات مفترسة، وإذا بالبغضاء والحسد والعداء والشر والقتل والتعب والحزن وسواها من مآسي الحياة، تطغى على الخليقة على نقيض ما كان عليه الحال في الجنة، فماذا جرى؟ وأي كارثة حلّت بهذا الكون؟ وأي تفسير يمكن أن نُقدمه بِمَعزلٍ عن السقوط؟ لقد أدرك أبو العلاء المعرّي هذه الحقيقة فقال: "هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد".
والسؤال إذا هو: كيف يجوز أن نُسلِّم بآثار الوراثة العميقة في الحياة في شتى وجوهها، ولانُسلّم بأثر الميراث الآتي من خطية أبويه الأولين؟!
إن إختبارات البشر في كل جيل وعصر تَصرخ في فزع مستمر قائلة مع النبي داود:"هأندا بلإثم صوّرت وبالخطية حبلت بي أمي".(مزمور51 :5) وكذلك قبل عشرات الأجيال إرتفعت هذه الصرخة عَيْنها من الرسول بولس: "وأمــا أنا فجسدي مَبـيع تحت الخطية، لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل. فإن كنت ما لست أريد إياه أفعل، فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فيّ ....فإني أُسَر بناموس الله في الإنسان الباطن. ولكنني أرى ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي". (روما 7: 19-23).
قال العالم الإنكليزي هاكسلي: "لا أعلم هناك دراسة انتهت إلى نتيجة تَعِسَة للنفس كدراسة تطور الإنسانية. فمن وراء ظلام التاريخ تَبيّن أن الإنسان خاضع لعنصر وُضِع فيه مُسيْطر عليه بقوة هائلة... إنه فريسة واهنة عمياء لدوافع تقوده الى الخراب، وضحية لأوهام لا نهاية لها جعلت كيانه العقلي همّاً ثقيلاً، أفنت جسده بالهموم و المتاعب. ومند آلاف السنين لا يزال هو هو، يُقاتل ويَضطهد، ويعود ليبكي ضحاياه ويبني قبورهم".
هل يحتاج الإنسان إلى هذه الشهادات الصارخة الآتية عَبر التاريخ لكي يَلمس هذه الحقيقة؟ ألا يكفي أن ينظر الإنسان إلى أعماق نفسه ويتحسس مُيوله ونزواته ليعلم أن الخطية ساكنه فيه؟
يكفي أن نلقي نظرة على المجتمع البشري لنلمس هــــذه الحقيقـة في كل إنسان، وهي كما يقول الكتاب المقدس: "الجميع فسدوا ورجسوا في أفعالهم".(مزمور 3:14) أي أن الجميع خَلوا من صورة الله التي كانت لآدم قبل السقوط .
إن وجود الخطية في حياة كل انسان أمر لا يجهله أحد، لأن فساد الطبيعة البشرية ظاهر للحسّ في عجز الإنسان في حفظ الشريعة الأدبية من تلقاء نفسه، حتى بتوبته الذاتية. فهذه عُرضة للفشل إذ كانت لا تتلقى معونة من الله بروحه القدوس، مما يؤكد لنا خلو المرء من البر الأصلي الذي كان للإنسان الأول قبل السقوط.
فمن يقرأ كتاب النبي مثلا لجبران خليل جبران، تبهره مظاهر التسامي والترفع، وتأخده صورة الروعة والدعوة الروحية، ولكن جبران بكل أشواقه عجز عن تحرير ذاته من طبيعته، وقد عبر عن هذه الأزمة عندما رسم لوحة ذلك الفتى القوي العضلات ذي الجناحين الممتدين الذي كلما همَّ بالطيران ليحلق في أعالــي الفضاء تشده إلى الأرض سلاسل حديدية تنتهي برؤوس أفاع فيظل في معترك صراع ما بين أشواقه الروحية ورغباته الجسدية. ومثل التعاليم والمبادئ والعقائد مثل أعمدة ضخمة تنتصب في حياة الإنسان، شامخة في علوها، غير أنها غير قادرة على مجابهة العواصف، أو مقاومة الأنواء لأنها لم تثبت على أساس من القوة، هي أعمدة تبهر الناظر بجمالها وضخامتها وفن صنعتها، ولكن أي جدوى منها إذا عجزت أمام أحداث الحياة.
قد يرى البعض فيما أقوله تهميشا لقدرة الإنسان و إلغاءا لإرادته وحكما قاسيا بحقه. لكن الحقيقة هي أن إرادة الإنسان قاصرة عن إنقاده من ظلمة واقعه الرهيب. أصبح الإنسان الساقط أشبه بسجين مقيد يعي حقيقة سجنه وحدود حريته ولكنه عاجز تماما عن طرح أغلاله والخروج الى العالم الرحب. ولا ريب أن حالة الوعي تزيد من ألم المرء لإحساسه العميق بالعجز. وبين الشوق للتحرر والعجز القاصر يمر الإنسان بأزمة بل أزمات روحية وفكرية . وتأتي حريته وإنعتاقه بإعادة تغيير الطبيعة البشرية، وهذا لا يتأتى عن طريق قوة ذاتية ، ولكن نتيجة عمل أو فعل خارجي قادر على تحطيم هذه القيود. ومن الجدير، في سياق معالجة هذا الأمر أن نتوقف عند الأمور التالية:
1ـ عجز الإنسان عن إنقاد نفسه لأنه في أغلال عبوديته.
2ـ عجز أي إنسان عن إنقاد إنسان آخر لأنهما كليهما يعانيان من نفس العبودية .
3ـ الحاجة إلى قوى خارجية محررة قادرة على فك الأغلال و القضاء على العبودية.
4ـ لحاجة إلى قوة خارجية في وسعها أن تعيد إلى الإنسان الساقط طبيعته الأولى.
5ـ لحاجة إلى قوة فاعلة في حياة الإنسان لكي تقيه العثرة من جديد.
طبعا هناك محاولات بشرية في القضاء على الخطيئة ، فقد قال فريق من رجال الإصلاح إن الفقر و الجهـــل و الفراغ و ثورة الشــباب هي العوامل التي تقود إلى إرتكاب الخطيئة، لأنهم رأوا أن الفقير ينقاد إليها للحصول على لقمة العيش ، والجاهل لعــدم تقديره للعواقب، والعاطل لعدم إستطاعته البقاء بلا عمل، والشباب لتهوره وإندفاعه. ولذلك سعوا لتوفير المال اللازم للفقراء، والعلم للجهلاء، والعمل للعاطلين، والتهذيب للمراهقين. ونرى أن وقفة الإنسان أمام سُلَّم إحتياجاته، وقفة ضرورية، ولا بد أن يصعد السلم، درجة درجة، فلا يمكن أن تكلم العطشان قبل أن تسقيه ولا الجوعان قبل أن يجد أكله الى غير ذلك. لكن هذه الوسائل (كما أثبت الإختبار) لا تجدي في التحول عن الخطيئة، لأن كثيرين من الأغنياء والمثقفين وأصحاب الأعمال والأشخاص الذين فاتوا دور الشباب، يرتكبون من اللآثام والموبيقات مثل غيرهم من الناس.
وقال فريق ثان إن العقاب البدني كفيل بتحويل الأشرار عن شرهم، ولذلك أمروا بمعاقبتهم إما بالسجن أو الجلد أو الأشغال الشاقة- لكن هذه الوسائل لم تجدي ايضا، إذ أنها تجعل الأشرار يعمدون إلى ابتكار طرق جديدة يخفون بها معالم جرائمهم، ومن ثم يتمادون في ارتكابها دون أن يكشف أحد أمرهم. ولو فرضنا أنهم أقلعوا عنها فلابد أن يضلوا يحاربون الميل إليها متى إتيحت لهم الفرص.
وقال فريق ثالت إن للدين سلطانا عظيما علىالناس إذا نشأوا عليه مند نعومة أظفارهم. ولذلك جعلوا تعليم الدين إجباريا في المدارس، وأوصوا الأطفال على حفظ الكثير من النصوص الدينية، لا سيما الخاصة منها بعظمة الله ووجوب الطاعة له. ولكن ألا يرتكب رجل الدين الذي نشأ مند طفولته نشأة دينية بحتة نفس الخطايا التي يرتكبها غيره من الناس؟ وهكذا يفعل التربوي والأخصائي والإجتماعي، حتى إذا بلغ الستين أو أكثر من العمر؟
إن السبب في فشل هذه الوسائل في تحويل البشر عن الخطيئة، يرجع إلى أن الميل إليها ليس أمرا عرضيا فيهم أو حالة المجتمع الذي يعيشون فيه، حتى لو كان من الممكن إزالته بواسطة كل هذه الوسائل، بل إنه نابع من ذات طبيعتهم. وهذه الطبيعة لا تتغير على الإطلاق، مهما تطبع المرء بطباع جديدة، لأن الطبع كما يقولون يغلب التطبع. فالوحوش المفترسة (مثلا) و إن كان قد أمكن تدريبها على القيام بالأعمال التي يطلبها مروضوها، لكنها كثيرا ما تنقض عليهم وتفتك بهم، وهكذا الحال مع الطبيعة البشريــة، فإنه من الممكن تهذيبها، وقد تهذبت فعلا حسب الظاهر وأصبح الإنسان المتحضر افضل من إنسان الغابة كثيرا، الطبيعة التي في كليهما هي طبيعة واحدة. نعم إن الإنسان المتحضر يتسامى أحيانا فوق الخطيئة تحت تأثير عوامل دينية أو إجتماعية، ولكن تساميا مثل هذا لا يكون في الواقع إلا تصرفا مصنعا، لأنه ضد الطبيعة وميولها. أما التسامي الحقيقي فهو التسامي الطبيعي (ومثله مثل البخارفي الهواء لأنه بطبيعته أقل وزنا)، ولا يكون هذا التسامي طبيعيا. إلا إذا حصل المرء على طبيعة جديدة يكون السمو وليس التسامي فقط من شأنها.
الكثير من الناس يمرون بأزمة فكرية أو روحية و نحاول أن نعطي شرحا لما تشتمل عليه المسيحية من روئ قد تكون غامضة في أذهان غير المسيحيين. إن كلمة الإيمان مثلا لكثرة تداولها بين الناس فقدت معناها عند معظمهم،وأصبحت تتلق على مجرد الإعتراف بعقيدة ما. فكل من اعترف بوجود الله (مثلا)، أصبح في نظرهم مؤمنا . لكن هذا ليس من الصواب في شئ، لأن من يؤمن بوجود الله، يبغض الخطيئة ويأبى السلوك فيها. وبما أن كثيرين من الذين يعترفون بوجود الله، يرتكبون الكثير من الآتام غير حاسبين له تعالى حسابا، إذا فهم ليسوا بمؤمنين. وإن قالوا إنهم مؤمنون، فإيمانهم هذا لا يكون حقيقيا بل إسميا فحسب. وإيمان مثل هذا ( إن جاز أن يسمى إيمانا) لا قيمة له في نظر الله، حتى إن كان دووه يصومون ويصلون ويتصدقون كثيرا. وإذا كان الأمر كذلك، فيجب علينا جميعا أن نعرف ماهو الإيمان الحقيقي.
الإيمان حسب الكتاب المقدس هو: "الثقة بــــما يرجى و الإيقــان بأمـــــــور لا ترى." (الإنجيل، رسالة عبرانين 11. 1) هذا هو المعنى العام للإيمان، أما مميزات الإيمان الحقيقي فلا ترتكز على مجرد الإعتراف بالمسيح أو مجرد تصديق رسالته كحقيقة أعلنها الوحي وأيدها الإختبار، لأنه إن وقف إيمان إنسان عند هذا الحد يكون إيمانه عقليا فحسب. والإيمان العقلي، وإن كان ينشئ في النفس إقتناعا بحقيقة الخلاص، لكنه لا يهئ لها سبيل الإفادة منه. فمثل الإيمان العقلي والحالة هذه كمثل إقتناع الأعمى بجمال الطبيعة، فإنه وإن كان يعطيه صورة ذهنية عن هذا الجمال، لكنه لا يهئ السبيل للتمتع العملي به. وقد أعلن الوحي الإلهي عن عدم فائدة هذا النوع من الإيمان فقال عن الشياطين : "إنهم يؤمنون ويقشعرون" (الإنجيل، رسالة يعقوب 2 : 19).ومع ذلك لا خلاص لهم على الإطلاق. كما أن القيام بالصلاة والصوم والصدقة ليس دليلا على وجود الإيمان الحقيقي، لأنه من الجائز أن يقوم إنسان بالصلاة والصوم بدافع من الغريزة الدينية وحدها، والصدقة بدافع من الشفقة الطبيعية دون غيرها، ويكون في نفس الوقت بعيدا بقلبه عن الله كل البعد. لأنه عمليا الشريعة أو الناموس عاجزا عن إعطائنا البر، لأنه يقتصر فقط عن إعطائنا مقياس الكمال، وأشبهه بالمرآة، التي ترينا القذىفي أعيننا دون أن تكون لها القدرة على إخراجها.
والإيمان الحقيقي هو عمل باطني يشغل قوى النفس كلها، لأن العقل الواعي يصدق المسيح، والإرادة تقبله، والعواطف تتأتر به، والعقل الباطن يستريح إليه ، ويفيد منه وبذلك تولد النفس ولادة روحية تحصل بها على حياة جديدة تهيئها لمعرفة الله و التوافق معه والسلوك حسب مشيئته. الأمر الذي ميز الإنسان الأول عن الحيوان هو أنه خلق على صورة الله (الكتاب المقدس سفر التكوين، أصحاح : 1 آية 26 و27) من المهم أن نذكر أنفسنا أن الإنسان في الكتاب المقدس لم يعرف به كإنسان لكونه يسير منتصبا أو نسبة لحجم دماغه، أو لأنه يستعمل اللغة، أو بسبب ذكائه المميز. إن مايجعل الإنسان إنسانا حقا هو كونه خلق على صورة الله. طبعا لا يشبه الإنسان الله في شكله، أو جبروته، أو قدرته على الوجود في أكثر من مكان في الوقت ذاته ، إنما صورة الله في الإنسان تفيد أن الإنسان قادر على فهم صوت الله وعلى إتخاد قرار حر ليصغي إليه.
وثان أمر في هذا المجال هو استعلان صورة الله في القدرات و الطاقات التي وهبت لروح الإنسان بحيث يمكنه أن يكون فكرا عما هو حق وخير وجميل يتجاوز المرئيات ويرتقي فوق مستوى الصور ويلج عالم المفاهيم والأفكار المجردة. هذه القدرات والنشاطات كلها لها نقطة انطلاقها ومركزها في الوعي الذاتي الذي به يدرك الإنسان نفسه. وتتجلى هذه القدرات في اللغة والدين والأخلاق والقانون والعلم والفنون هذه القدرات والنشاطات من خصائص صورة الله لأن الله ليس قوة عمياء غير واعية، بل هو كائن ذو شخصية ووعي ذاتي ومعرفة و إرادة. فالأمر الأساسي ليس أننا نفكر او نتكلم أو نبغض أو نحب بل إن مشابهة الإنسان لله تكتسب أهميتها مما نفكر فيه ونريده، وما هو غرض بغضنا أو حبنا . فقوى العقل والإرادة والمحبة إنما وهبت للإنسان كي يستخدمها .
إننا عندما نلجأ إلى الإيمان لا نلجأ إلى أمر يسلب العقل عمله، (كمــــــا قال أحد العلماء) بل إلى ما يجعل العقل أكثر تفكيرا وأعظم تأثيرا. و أضاف قائلا: "الإيمان ليس عملا عقليا عاديا، لأنه يتطلب مقدارا كبيرا من الإرادة والإختبار. وما الغرض من الفلسفة النظرية إلا ان تجعل الثورة الفكرية التي تحدت في عقل الإنسان، إيمانا راسخا. إذ أن المعرفة وحدها لا تجدي إذا كانت مجردة من الإيمان". وقال عالما آخر: "عندما أدركت المسيحية أصبحت أعتز بها أكثر من أي شئ في الوجود، كما أصبح في وسعي البرهنة على صدقها دون أن أتجاوز مطالب الأمانة الفكرية". ومع ذلك، وإن سمي الإيمان بالمسيح فوق العقل الواعي، فالعقل الباطن يستطيع أن يدركه كل الإدراك، ويطمئن له كل الإطمئنان، بل ويستطيع ان يجابه إعتراض العقل الواعي من جهته إن كان له إعتراض، ويقهر حجته إن كانت له حجة، إذ إن الحقائف الروحية التي يختبرها العقل الباطن بناء على أقوال الله، هي أتبت وأرسخ من حجج العقل الواعي جميعا. أن هذا العقل مع ما وصل إليه من نضوج ورقي، لا يزال يجهل الكثير حتى من أمور الدنيا التي تقع تحت إدراكه وإحساسه. لقد قال الكتاب المقدس كلمته في هذا المجال فتكلم على خلق الإنسان في البدء على أحسن تقويم ثم تكلم على سقوطه وإندفاعه وراء الباطل وتوغله في الشر.
ونجد الكتاب المقدس يؤكد كذلك على قداسةالله و عدله وصدقه ومحبته التي لا تعرف الحدود في حدودها و غفرانها . و السؤال الذي قد يتبادر إلى الأدهان هو كيف يتم التوفيق بين عدل الله و بين محبة تغفر الكل وللإجابة على هذا السؤال، ندرج قول أحد المحاميين في ختام دفاعه عن أحد المتهمين: لقد قرأت في كتاب ما أن الله في مشورته الأزلية سأل العدالة والحق : هل أصنع الإنسان؟ فأجابة العدالة : لا، لأنه سيدوس جميع شرائعك وسننك ونظمك. وقال الحق: لا تصنعه لأنه سيكون قبيحا، وسيسعى دائما وراء الباطل متكلما بالكذب! حينئد قالت المحبة: أنا أعلم أن هذا سيكون ولكني مع شر الإنسان وفساده، سأتولى أمره وسأسير به خلال الطريق المظلمة حتى آتي به إليك.
إن القول أن خلاص الإنسان يتوقف على رحمة الله صحيح إلى حد بعيد. ولكن بعد أن تنال قداسة الله حقوقها من الإنسان. فالله قادر على رحمة الإنسان و لكن ليس على حساب قداسته وعدالته لأنه سبحانه وتعالى لا يناقض ذاته.هذا وجه جوهري في الطبيعة الإلهية، فالله هو كلي الإنسجام مع ذاته وإلا فإن إرادته تتصارع، وصفاته تتناقض، وقد حل الله سبحانه المشكلة القائمة ما بين القداسة والمحبة والعدل والرحمة عن طريق الكلمة الخالقة والمتجسدة المسيح كلمة الله وروحه.
كتب أحد المسيحيون الأولون كلمة رائعة عن الله الواحد، الجامع في وحدانيته ما يلي: "إذا قلت إنه نور، فإنني أتحدت عن شئ عمله. إذا قلت إنه الكلمة، فأنا أتحدت عن تعبيره عن ذاته. إذا قلت أنه عقل، فأنا أحدده بحدود عقلي. إذا قلت إنه روح، أنا أتحدت عن حياته، إذا قلت إنه الحكمة فأنا أتحدت عن صفة ملتصقة به، إذا قلت إنه القوة، فأنا أصف فقط قدرته،وإذا قلت إنه المدبر، فأنا أحدد نفسي بحدود إحسانه، إذا تحدتت عن ملكوته فأنا أشير الى مجده، اذا دعوته الرب، فلأنه القاضي.وإذا دعوته القاضي، فلأنه العادل البار. وإذا قلت إنه نار، فأنا أصف غضبه..أما إذا دعوته
الآب، فقد وصفته بكل ما يليق به..."